الكويت.. بوابة مفتوحة على حضارات الماضي واكتشافات أثرية ضاربة في عمق التاريخ

تختبئ تحت رمال دولة الكويت قصص وأسرار حضارات تمتد جذورها إلى آلاف السنين، شاهدة على إرث تاريخي وحضاري زاخر، جعل من هذا البلد مفتاحًا ذهبيًا لفهم تاريخ المنطقة وربط حاضرها بماضيها. وتحتضن الكويت سجلًا غنيًا بالاكتشافات الأثرية للحضارات القديمة التي تعاقبت على استيطان أرضها على مدى التاريخ، مما يعكس دورها المحوري وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، ويجسد مركزيتها في التواصل بين الحضارات وتبادل الثقافات.
وتعود البدايات الأولى للبعثات الأثرية في البلاد إلى العام 1958، الذي يشكل علامة فارقة في انطلاق الاستكشافات الأثرية عبر البعثة الدنماركية. ومنذ ذلك التاريخ، توالت برامج المسح والتنقيب الأثري على أرض الكويت وجزرها، لتضع كنوز اكتشافاتها المتلاحقة على الخريطة الحضارية للمنطقة، وتقدم دليلًا إرشاديًا لثقافات ومدن ومجتمعات منذ بدء استقرار الإنسان على أرضها في نهاية الألف السادس قبل الميلاد.
وتعد جزيرة فيلكا، التي يعتقد أنها كانت تحمل اسم “أجاروم” قديمًا، من أبرز المواقع الأثرية في البلاد، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحضارة دلمون القديمة، وأدت دورًا حضاريًا محوريًا في تلك الفترة بسبب وقوعها على الطريق التجاري البحري العالمي الذي يربط بين حضارات بلاد الرافدين وحضارات جنوب شبه الجزيرة العربية. وتكشف الجزيرة عن مستوطنات متكاملة ترجع إلى الفترة المبكرة من الألف الثاني قبل الميلاد، تشمل دورًا سكنية ومعبدًا وموقع قصر الحاكم، إضافة إلى مستوطنة أخرى تطل على ميناء طبيعي يعتقد أنه الميناء القديم للجزيرة. ومع مرور الزمن، شهدت فيلكا تقلبات في دورها الحضاري، حيث تعرضت للتأثير الهلنستي بعد سقوط حضارة دلمون، إذ كشفت أعمال التنقيب الأثري عن عدد من المستوطنات التي ترجع إلى تلك الفترة، كالقلعة الهلنستية الفريدة في منطقة الخليج العربي.
أما منطقة الصبية، الواقعة في شمال جون الكويت، وتحديدًا في شبه جزيرة طبيج، فقد أصبحت محط أنظار بعثات التنقيب الأثرية العالمية، حيث كشفت عن حضارات موغلة في القدم ومواقع أثرية تعود إلى حضارة العبيد خلال الفترة الممتدة من 4500 إلى 5500 قبل الميلاد. وأظهرت هذه المواقع مستوطنات يتكون كل منها من عدد من الحجرات المتجاورة، كما تم العثور على مدافن ركامية وأدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري الحديث (النيوليثي)، تشمل رؤوس السهام والفؤوس الحجرية. وتشير اللقى الأثرية التي عثر عليها في هذه المواقع إلى نشاط بحري كبير مع بعض المراكز الحضارية القريبة، وهو ما دل عليه العثور على نموذج من الطين لأقدم قارب بحري.
كما كشفت منطقة كاظمة عن بقايا مستوطنات وأوان فخارية وعملات من العصر الأموي والعباسي تعود إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، مما يؤكد دورها كمحطة تجارية مهمة في تلك الفترة. وتشير تقارير المسح الأثري إلى انتشار مراكز حضارية ترجع إلى فترة التاريخ الإسلامي في وادي الباطن، الذي يعتبر جزءًا من طريق الحج البصري، وكذلك منطقة أم العيش وكاظمة، إضافة إلى جزيرة عكاز.
ورغم مرور أكثر من ستة عقود على التنقيب الأثري في الكويت، لا تزال الأرض تنبض بالاكتشافات الفريدة التي تضيف حقائق جديدة وأبعادًا أعمق عن امتداداتها الحضارية والثقافية على أمد العصور. وفي هذا الإطار، قال الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب المساعد لقطاع الآثار والمتاحف بالتكليف، محمد بن رضا، إن موسم التنقيب الأثري لعام 2024 شهد اكتشاف مواقع أثرية جديدة في مناطق كاظمة والصبية وجزيرة فيلكا. وأشار إلى أن الفريق الكويتي الدنماركي (متحف موسغارد) عثر على معبد من العصر البرونزي شبه كامل يعود إلى حضارة دلمون. وبين أن فريق التنقيب البولندي يعمل حاليًا في موقع “بحره 1” في منطقة الصبية، الذي يحتضن مستوطنة يعود تاريخها إلى 5700 قبل الميلاد، وتعرف بأنها أقدم وأكبر مستوطنة معروفة في شبه الجزيرة العربية من فترة العبيد. وأوضح أن الفريق الكويتي البولندي أعلن مؤخرًا عن اكتشاف فناء أو ورشة لصناعة الحلي والزينة المصنوعة من الأصداف، حيث عثر على العديد منها أمام مساكن “ثقافة العبيد” التي تم التنقيب عنها في مواسم مختلفة، بالإضافة إلى العديد من الفخاريات التي تتجاوز 7000 سنة. وأشار بن رضا إلى أن من أهم الاكتشافات إثارة للإعجاب في موسم التنقيب الأثري 2024، اكتشاف رأس صغير لآدمي مصنوع من الطين، وهو يعتبر الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي.
وأكد أن قطاع الآثار والمتاحف في المجلس الوطني ما زال يشرف على بعثات عالمية للتنقيب عن آثار في المواقع الأثرية، مثل البعثة الإيطالية في موقع القرينية، والبعثتين الفرنسية والإيطالية في موقع القصور الذي يعود إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. وعن الأهمية التاريخية لجزيرة فيلكا، يؤكد مدير البعثة الأثرية الدنماركية إلى الكويت، الدكتور ستيفن لورسن، أنها شكلت مركزًا حيويًا للتجارة بين بابل القديمة والمحيط الهندي، حيث أنشأت مملكة دلمون خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد ميناءً مزدحمًا والعديد من المعابد في الجزيرة. وأشار إلى أن الاكتشاف الأخير لفريق التنقيب المتمثل في مخطط شبه كامل لمعبد من العصر البرونزي يعد معلمًا مهمًا في فهم الممارسات الدينية لحضارة ومملكة دلمون، مؤكدًا أن أعمال التنقيب المستمرة تعد بالمزيد من الرؤى حول تاريخ الكويت في فترة ما قبل التاريخ.
وضمن جهود الدولة لحماية الآثار، أعلن أستاذ الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة الكويت ومستشار المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لشؤون الآثار والمتاحف، الدكتور حسن أشكناني، أن فريقًا فرنسيًا سيصل الكويت قريبًا لعمل ترميمات لموقع القلعة الهلنستية (تل سعيد) وحماية البقايا الأثرية المكتشفة في السنوات السابقة. وقال أشكناني إن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب يتعاون مع بعثة جامعة روما لا سابينزا الإيطالية لعمل مسح أثري في مناطق شمال جون الكويت. كما أشار إلى استضافة الكويت لوفد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعاون مع معهد الكويت للأبحاث العلمية وجامعة الكويت، لاستخدام تقنيات مختبرية متطورة لدراسة آثار الكويت، إضافة إلى إقامة ورشة ضخمة لأعضاء لجنة التراث العالمي للعمل على وضع معايير تتناسب مع قيم اليونسكو لحماية وتطوير المواقع الأثرية في جزيرة فيلكا.
ولتعزيز نتائج الاكتشافات الأثرية علميًا، أشرك المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الآونة الأخيرة عددًا من القطاعات للتعاون مع البعثات الأثرية في الكويت، لتقديم تفسيرات وإجابات علمية عن مصادر المواد الأصلية المستخدمة في المواقع الأثرية المكتشفة وأنواع النباتات والبيئة القديمة. ويعمل المجلس ضمن استراتيجية تكاملية بدأت مع وصول أول بعثة أثرية إلى الكويت في عام 1958، واستمرت مع البعثات الأمريكية والإيطالية والفرنسية والبريطانية والسلوفاكية.
وفي ديسمبر من العام 1957، افتتحت البلاد متحف الكويت الوطني في قصر الشيخ عبد الله الجابر الصباح بمنطقة دسمان، قبل أن تنقل محتوياته في عام 1976 إلى بيت البدر بوصفه أحد بيوت الكويت التقليدية القديمة، تمهيدًا لإقامة المتحف الجديد الذي افتتح عام 1983، ونقلت إليه المقتنيات الأثرية القديمة والإسلامية والشعبية ليصبح مركزًا حضاريًا وثقافيًا. كما تمثل دار الآثار الإسلامية، التي أسست عام 1983، مركزًا لنشر الوعي الآثاري والحضاري، حيث تضم ما يقارب 30 ألف تحفة آثارية من المقتنيات الخاصة التي تعود ملكيتها إلى الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح وزوجته الشيخة حصة صباح السالم. وتولي دولة الكويت عناية بالغة بعلم الآثار وتوثيق المواقع الأثرية، حيث عهد قانون الآثار الكويتي الصادر بالمرسوم الأميري رقم 1 لعام 1960 وتعديلاته اللاحقة إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مهمة حماية الآثار وتسجيلها ونظم طرق المحافظة عليها. وعمدت البلاد إلى تعزيز إسهاماتها الخاصة في مجال علم الآثار على يد مجموعة من علماء الآثار الذين أثروا خزينتها بكثير من الدراسات المتخصصة في حقل البحوث الأثرية، والعديد من المؤلفات التي حوت خلاصات حول تاريخ الكويت ومنطقة الخليج العربي. كما تتبنى الدولة قوانين صارمة لحماية الآثار من العبث أو التدمير، حيث تجرم أي أعمال تخريبية أو تهريب للقطع الأثرية، وتضع عقوبات رادعة لضمان الحفاظ على التراث الثقافي. وتمثل آثار الكويت شهادة حية على تطور الحضارة الإنسانية في المنطقة، وبوابة مفتوحة على عوالم سابقة، ومصدر جذب دائم للباحثين والمؤرخين، وقبلة للسائحين، إضافة إلى كونها مرآة عاكسة لهوية الدولة وجذورها التاريخية والثقافية على مر العصور، لا سيما أنها تمثل أقدم مناطق الشرق القديم التي استوطنها الإنسان.