الدكتور محمد الصياد يكتب: زومبيات الغرب إلى الواجهة من جديد
كتب – محمد الصياد:
يكثف جورج سوروس وهنري كيسنجر هذه الأيام من ظهورهما الإعلامي. وسائط الميديا السائدة (Mainstream Media – MSM)، التي تشكل رأس حربة الناتو في الحرب المفتوحة، الساخنة والباردة، المندلعة اليوم بين الغرب الجماعي “Collective west” وكل من روسيا والصين اللتين تقودان المعركة العالمية للإطاحة بنظام الأحادية القطبية الأمريكي وإقامة النظام الدولي المتعدد الأقطاب الذي يحظى بمناصرة الغالبية الساحقة من بلدان عالم الجنوب “Global south” – تدوام منذ بعض الوقت على توفير مساحات على منصاتها لهذين العجوزين الملطخة أيديهما بدماء عشرات الآلاف في مختلف بقاع الأرض.
عمر كيسينجر اليوم 99 سنة، وعمر سوروس 92 سنة. الأول كيسينجر، أعادته “الاستابليشمنت” (المؤسسة) – لحسابات جيوسياسية خاصة بها – إلى الأضواء رغم ثقل حركة جسمه وثقل لسانه، فقذفت به كأحد المنظرين المستقلين شكلاً، إنما المحسوبين عليها فعلا وأجراً، للحرب الأطلسية الروسية المندلعة على الأراضي الأوكرانية منذ 24 شباط/فبراير 2022؛ فطفق يطلق مرئياته ونقيضها حول إنهاء الحرب، أولاً في صورة استنطاقات رتبتها وسائط الميديا التابعة، وتالياً عبر أكثر منصة فخامةً لكبار ممثلي الأوليغارشيا العالمية الذي يتبارون ويتباهون بالتواجد فيها: منتدى دافوس السويسري السنوي. هناك في دافوس، حيث جرى استدعاؤه من قبل العرّاب الكبير، صاحب منتدى تجمع دافوس، تراجع عما سبق أن وزعه على وسائط الميديا الأمريكية حول ضرورة تنازل أوكرانيا عن شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس الروسي، وأعاد طرح السردية الأمريكية القائلة باستمرار حرب أمريكا ضد روسيا بالوكالة حتى آخر جندي أوكراني.
الآن يبدو أن وسائط بروباغاندا الاستابليشمنت استهلكته على الآخر، فما من فائدة ترجى منه إلا أن يتم إدخاره للحطة مواجهة الحقيقة وإرساله إلى موسكو والصين استجداءً للحل إنما باسم الوساطة الحافظة لماء وجه الجميع. فهو ما زال يحتفظ بعلاقات مع موسكو ورئيسها، كما هو الحال مع القادة الصينيين الذين ما زال يعتقد أنهم ممتنون له وللدور الذي لعبه في إنهاء عزلة الصين.
جورج سوروس، الذي يعد هو الآخر من أبرز أقطاب تجمع أوليغارشيا المليار الذهبي “Golden Billion” (مصطلح جيوسياسي ذكي كان قد وضعه أستاذ الاقتصاد الكاتب السوفييتي تسيكونوف أناتولي كوزميتش [Tsikunov Anatoly Kuzmich, 1991- 1933] في كتابه الموسوم “مؤامرة الحكومة العالمية: روسيا والمليار الذهبي” [The Plot of World Government: Russia and the Golden Billion]، واستخدمه في كتاباته فيما بعد، قبل أن يشيع استخدامه في بلدان عالم الجنوب – وكذلك في الغرب الجماعي – للدلالة على عصبة من النخب العالمية تشد الخيوط للسطو على ثروات العالم كي يتمتع بها أغنى مليار شخص في العالم، هم سكان الدول الغربية، على حساب بقية البشرية)، الذي يأتلف في شهر كانون ثاني/يناير من كل عام في منتجع دافوس السويسري.
حل، بعد شهر من تجمع دافوس، ضيفاً على مؤتمر ميونيخ للأمن (أو بالأحرى مؤتمر ميونيخ للحرب برسم الخطب الحربية التي تبارى قادة الغرب الجماعي
“Collective west” على إلقائها في المؤتمر)، الذي عقد في شهر فبراير/ شباط الماضي وألقى كلمة غريبة في رسالتها وتوقيتها، وصادمة للهنود بقدر ما كانت صادمة لحكومتهم.
فلقد قال العقل المدبر للثورات الملونة، إنه يأمل أن يكون شاهداً على حدوث تغيير للنظام في الهند في وقت قريب. ما يلي هي بالضبط الكلمات التي قالها كما نقلها موقعه الرسمي على شبكة الانترنت: “الهند حالة مثيرة للاهتمام. إنها ديمقراطية، لكن زعيمها ناريندرا مودي ليس ديمقراطياً. كان التحريض على العنف ضد المسلمين عاملاً مهماً في صعوده السريع. مودي يحافظ على علاقات وثيقة مع كل من المجتمعات المفتوحة والمغلقة. الهند عضو في المجموعة الرباعية (التي تضم أيضًا أستراليا والولايات المتحدة واليابان)، لكنها تشتري الكثير من النفط الروسي بخصم كبير وتجني الكثير من المال عليه”.
وكي يبرر هجومه على الهند، أتهم سوروس رئيس الوزراء الهندي بالفساد الذي سيكون سبباً -بحسبه– في إضعاف قبضة مودي بشكل كبير على الحكومة الفيدرالية الهندية ويفتح الباب للضغط من أجل الإصلاحات المؤسسية التي تشتد الحاجة إليها”، مضيفاً بصورة وقحة لا تدانيها سوى وقاحة المسؤولين الأمريكيين هذه الأيام وهم يهددون علناً حكام عالم الجنوب من التعاون مع الصين ومع روسيا: “قد أكون ساذجاً، لكنني أتوقع إحياءً للديمقراطية في الهند”.
إلقاء سوروس قفازه الخاص بثوراته الملونة في وجه الهند، لم يكن منفصلاً عن سياقات تدبيرية منظمة تصب في خانة ما أفصح عنه سوروس بالحرف. فالحقيقة أن ما قام به سوروس هو بمثابة “إخراج القط من الصندوق” (Letting the cat out of the bag)، كما يذهب المثل الدال على إفشاء السر. قبل سوروس بوقت قليل، وتحديداً في الحادي والثلاثين من ديسمبر /كانون أول 2022، أطلقت صحيفة نيويورك تايمز (NYT) هذه الحملة الخبيثة.
فبعد الإقرار بصعود الهند اللافت، سرعان ما تقفز الصحيفة إلى مبتغاها الأصلي، بإلقائها ظلال من الشك على مستقبل الهند، والزعم بأن هذا الصعود غير مستدام بسبب الصراعات الاجتماعية والسياسية التي لا يمكن التوفيق بينها، كما تذهب الصحيفة، بما سيفضي إلى زعزعة الاستقرار في البلاد. وسرعان ما انضمت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للحملة ببثها “فيلماً وثائقياً” استهدف شد الأوتاد المذكورة وتسخين الجو لتأليب الهنود بعضهم ضد بعض.
نحن إذن أمام تغيير في لعبة الحرب الهجينة بين المعسكر الأمريكي الأوروبي، وبين محور موسكو-بكين، يستهدف، على ما هو ظاهر، تبديل القيادة الهندية الحالية المنحازة لتيار القطبية المتعددة، بدمى هندية تجاهر بتأييدها لاستمرار نظام الأحادية القطبية، سيوكل إليها الغرب الجماعي مهمة مناهضة روسيا وإعادة لغة الصراع والحرب مع الصين، بما هو على تضاد مع المصالح الهندية.
لماذا يتم استهداف الهند من قبل المليار الذهبي كعقاب على سياساتها الداخلية والخارجية المستقلة حقاً. لقد قامت هذه الدولة الواقعة في جنوب آسيا بالتوازن ببراعة بين كتلة الحرب الباردة الجديدة المذكورة بحكم الأمر الواقع، وبين الجنوب العالمي بقيادة منظمة شنغهاي للتعاون (BRICS) ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، والتي تعد جزءاً منها وتطمح لقيادتها، الأمر الذي أدى بدوره إلى تسريع تطور التحول النظامي العالمي. للثلاثية.
عن الكاتب:
الدكتور محمد الصياد: خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية. عمل سابقاً مستشاراً لملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدر له حديثاً ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي”.
هذا المقال يُنشر بالتعاون مع: www.themfadhel.com